الأربعاء، 8 أبريل 2009

بين المكتوب والمنطوق






لا أدرى هل سأقاوم التيار وحدى ( ومعى بعض الكتاب لا أنكر) وأستمر فى الكتابة بالعربية؟
هناك مشكلتان فى الكتابة بالعربية
أول مشكلة أن غير الناطقين بالعربية لن يصلهم شيء مما يكتب ، ولكن بما أننا سنفترض أننا نكتب لنا وعن أحوالنا يمكننا أن نقلل من أهمية هذه المشكلة وقد لا يهم كثيرا مناقشة أمورنا مع غيرنا
ثانى مشكلة ، وهى الأهم ، أن اللغة لم تعد لغة شرعية أو أصلية ، أقصد ما تعلمناه فى المدارس والكتب ، وأعجب ما نراه انتشار الكتابة بالعامية الدارجة ليس فى الصفحات الخاصة على الإنترنت فقط بل تصدر بها الكتب وتعلق بها الشعارات وتتفنن فيها دعايات الطرق واللافتات وإعلانات الصحف والمجلات ، وبعضها دعايات حكومية لجهات رسمية وأخرى شعارات لأحزاب سياسية
طبعا تشاهدون التليفزيون وتتابعون القنوات الفضائية كبقية البشر فى العصر الحديث ، وأكيد تلاحظون كيف فى حوارات المسئولين الكبار والمعلقين والمحللين السياسيين بل وبعض "المفكرين" يسأل أحدهم السؤال بلغة عربية فصيحة سليمة واضحة بسيطة من قبل المذيع أو المذيعة وتفاجأ بالرد بالعامية التقليدية التى يتحدث بها المسئول فى بيتهم ومع السائق أو البواب ، ويستمر الحوار ومقدم البرنامج يحرص على لغة الحوار السليمة لأن قناته تختبر قدراته اللغوية قبل إسناد المهمة إليه وتفترض إجادته ليس فقط من باب الحرص على رفع مستوى الحوار الثقافى وإنما بالافتراض الأكثر عملية وهو أنها تقدم برامجها لكافة اللهجات المحلية ولا بد لها من لغة مشتركة يفهمها الجميع وحتى لا تبدو أنها تدير حوارا للطرشان ، لكن الضيوف الكبار لا يعبأون بهذا ، وهى غالبا ليست مسألة عدم اهتمام من الضيف وإنما قد تكون عدم قدرة ..
لكن هذا يهون بجانب تحول لغة الكتابة إلى العامية ، وأنا أتابع مايجرى مثلكم أرى على الإنترنت مهازل أمية الكبار ، وهى أمية جديدة غير تلك التى يفترض أن يكون أصحابها ممن لم ينالوا أى قسط من التعليم ، الأمية الجديدة أصحابها ناس خريجو مدارس وجامعات ..
تتابع أحد العناوين على الإنترنت فتجد أخطاء إملائية فظيعة تكاد تخرق العين وتثير الدهشة ، وهى ليست عفوية أو مطبعية بدليل أنها تتكرر دائما ، والغريب أنها تقع فى كلمات لا يمكن تخيل أنها محل اختلاف أو اشتباه ، يعنى لو كتب أحدهم يحلف يمينا فيكتب "والله العزيم" أو يكتب " أنا ألبى وجعنى" يقصد قلبه ، أو "ركبت الأطر" ، يقصد القطار .. يعنى ماذا هذا؟ ببساطة يعنى أنه لم بقرأ هذه الكلمات من قبل ، حفظها هكذا "سماعى" ثم ترجم ما سمعه بواسطة ما يعرفه من الحروف ، ثم قد يعنى أنه لا يقرأ على الإطلاق لأنه يخطىء فى الكلمات الشائعة
بمناسبة القراءة ، منذ عشرين سنة تقريبا كتبت كتابا وذهبت به للناشر فسألنى كم نسخة تريد طباعتها من كتابك فأجبته 10 آلاف ، وإذا احتجنا نطبع أكثر نصدر طبعة ثانية ، وكأننى رميته بسهم فرد قائلا " 10 آلاف إيه يا أستاذ وطبعة تانية إيه؟" فظننت أن الرجل يفكر بألا يغامر بنشر هذا العدد الهزيل الذى قد لا يحقق ربحا واقترحت عليه "20 ألف كويس؟" .. هنا انفجر ضاحكا وغاضبا فى نفس الوقت فناولنى الضربة القاضية " أعلى مؤلف فى مصر بيوزع 5 آلاف نسخة ، وكان أيامها بقصد محمد حسنين هيكل .. طبعا عرفت قدرى فى ساعتها وتقلصت آمالى المتفائلة إلى 2000 نسخة لكن الرجل نصحنى بطبع ألف نسخة فقط ..
بعدها بعشر سنوات ذهبت بكتاب آخر إلى ناشر آخر ، أكبر هذه المرة ، وسألنى نفس السؤال فأجبته على الفور "2000 نسخة" ، لكنه تردد ، ولم أعرف سر ترده بالضبط إلا عندما قال " 2000 كتير" ، قال أكبر مؤلف فى مصر يوزع 2000 نسخة ، وكان أيامها نجيب محفوظ ، ثم اقترح على تخفيض العدد إلى 500 نسخة فقط ..
بعد عشر سنوات أخرى ، أى هذا العام ، طبعا كنت بطلت حكاية النشر نهائيا ، تابعت حوارا تليفزيونيا وكان ضيفه على ما أذكر جمال الغيطانى مع آخرين ، الجميع يشتكون من نفس الشكوى ، أعلى رقم توزيع لأى كتاب الآن هو 1000 نسخة ..
نعم .. الانخفاض مستمر .. ويبدو أن معارض الكتاب السنوية مجرد ديكور ثقافى كغيره من ديكورات حياتنا الكثيرة
طبعا هذا معناه أن الناس لا يقرؤون ..
الكاتب العملاق حسنين هيكل يخبرنا بأنه لا يكتب مؤلفاته بالعربية ، لا فصحى ولا عامية ، ولا يذهب بها إلى ناشر عربى ولا ينظر أصلا إلى توزيعها فى المنطقة العربية ، هو يكتبها بالانجليزية ، ويصدرها ناشر عالمى يبيع فى أوربا وأمريكا ، وبعدها إذا رغب أحد فى ترجمتها إلى العربية وتحمل مشقة ومغامرة توزيعها لقراء العربية فليكلف أحدا بترجمتها ويأخذ المهمة على عاتقه .. إن نجح نجح وإن خسر خسر
ومع هذا نفاجأ من حين لآخر بأن كتابا ما قد وزع 20000 ألف نسخة ، عشرين ألف ، أو يزيد إلى المائة ألف! لكنك تكتشف أن هذه الكتب الناجحة كتبت بالعامية!!! معقول؟؟؟ هذا هو ما يحدث ..
المشكلة ليست جديدة ، وقد عبر عن قلقه منها أمير الشعراء أحمد شوقى (قبل نحو 90 عاما) عندما قال " أخشى على الفصحى من عامية بيرم" ، وبيرم التونسى لم يكن مجرد شاعر عامية فهناك آلاف ممن يمكن وصفهم بهذا الوصف ، لكن بيرم كان مفكرا وفيلسوفا وثائرا ، ولأنه ينتمى إلى الحس الشعبى فقد اختار مخاطبة الناس بأقصر طريق وكان متمكنا من أدواته تماما ، ولم ينجح أحد فى أن يكون بيرم آخر أو ينافسه فى قمته ، ثم أن شعراء العامية على مجموعهم لا يدخلون عادة فى كتابات أخرى بالعامية ، أى أنها قد اقتصر استعمالها على لون من ألوان الأدب هو الزجل أو الأدب الشعبى وأساسا فن منطوق ولم يجعل للكتابة ، وكذلك على المسرح وفى السينما استخدمت العامية دون أية حساسيات لأنها أشكال فنية ولأنها فى جميع الأحوال لغة منطوقة فى النهاية وتعمل فى وسط ناطق حتى لو كانت أصولها قد طبعت على الورق ، وقد يكون هناك بعض العذر لبرامج التليفزيون أيضا من هذا المنطلق حيث أنه وسط ناطق ، وهيكل نفسه ، على فصاحته ، عندما انتقل إلى وسيلة ناطقة اختار العامية ، كذلك فعل الكاتب جمال الغيطانى وغيره ، وأول من خاطب الناس فى البرامج الدينية باللهجة العامية كان الشيخ متولى الشعرواى ، وهو أستاذ الأساتذة فى الفصحى وقواعدها ، وأشهر السياسيين فى الخروج من النص الفصبح المكتوب إلى الخطاب الدارج المباشر كان الزعيم جمال عبد الناصر
لكن استخدام العامية فى كتب عامة وانتشارها فى الصحافة المكتوبة وإعلانات الطرق وعلى الإنترنت لا يتمتع بنفس المبررات ، فهى مواد مكتوبة مقروءة وستظل هكذا.. هذا هو الفرق

إذا ماذا نسمى هذا ؟ هل هو تلوث ثقافى ، هل هو أحد مركبات الجهل والأمية ؟ هل هو أحد منتجات نظم التعليم الفاشلة؟
كما يقال فإن انتشار المرض أهم من وجوده ، وتحليلى الشخصى للقضية هو أنها دليل عجز وليس دليل عادة أو تفضيل ، ولكن هل القراء الآن يفضلون قراءة العامية؟

يبدو أن الكتاب التقليديين سيظلون مخلصين لأسلوبهم وأن من يكتب بالعامية لم يبدأ إلا هكذا .. سأعطى مثلين ،
أولهما كتاب " عشان ما تتضربش على قفاك" الذى كتبه ضابط شرطة حاول فيه توعية الناس بحقوقهم القانونية .. بدأ بعنوان الكتاب مباشرة .. وبصرف النظر عن الموضوع نتساءل هل كان سيحقق نفس الانتشار لو أنه كتب بالفصحى؟
المثال الثانى كتاب " عايزة اتجوز" لغادة عبد العال ، ونفس السؤال يطرح نفسه ..
ترى ما الذى يجعل العامية أكثر جذبا؟
هناك عدة أسباب أولها الطرافة .. فاستخدام التعبيرات الدارجة ، خاصة الساخرة منها ، تحقق القرب من نفسية القارىء وتدخل إلى ذهنه أسرع لأنها تستخدم الأدوات المعتادة فى الحديث اليومى لعامة الناس
ثانيها الموضوعات التى يطرقها كتاب العامية تكون فى العادة أقرب إلى الحياة اليومية منها إلى تلك التى تحتاج رؤية خاصة أو ثقافة معينة لمتابعتها
ثالثها أن القارىء يشعر بأن الذى يحدثه هو صديقه أو جاره أو زميله فى العمل وليس كاتبا متخصصا فى شيء ، وهذا يحدث نوعا من الألفة بينه وبين الكاتب ، والمباشرة فى الخطاب تشعره بأنه يستطيع الدخول فى حوار مباشر مع هذا الكاتب أو ذاك بما يعنى استخدام اللغة اليومية دون الحاجة لرفع المبتدأ ونصب الخبر ولا إلى المعرفة العالية أو الغنى الثقافى اللازم لمتابعة المكتوب والتفاعل معه

هكذا نجد عدة فئات من الكتاب فى الساحة ،
كتاب الفصحى ،
كتاب العامية ،
كتاب فصحى يتحولون إلى العامية إذا قدمت أعمالهم فى وسائط ناطقة ،
كتاب عامية لا يكتبون كتبا وإنما ينشرون على الإنترنت كتابات متفرقة معظمها فى شكل رسائل أو مدونات
كتاب قد يهجرون الفصحى إلى العامية سعيا وراء الانتشار وقبول القارىء الجديد
كتاب يمزجون بين هذا وذاك

هناك غير هذا أناس يكتبون بلغة جديدة تماما لا هى فصحى ولا عامية ، وهم يستخدمون الحروف الانجليزية فى كتابة ما يودون من الكلمات العربية ، يعنى تكتب من اليسار إلى اليمين ، وتقرأ كذلك لكنها تنطق عربية ، أى ترجمة حرفية من الحروف العربية إلى مقابلها بالحروف الانجليزية دون ترجمة معانى الكلمات ، هذه تنتشر أيضا على الإنترنت ونظرا لعدم مطابقة كامل الأبجدية العربية للانجليزية فقد أضاف مخترعوها أرقاما انجليزية لتحل محل الحروف العربية التى ليست لها نظائر كتابة أو نطقا ، ولا أدرى ما الهدف أو الفائدة من ذلك الاختراع لكنى متأكد تماما من أنه هو الآخر دليل ضعف اللغة الأجنبية أيضا عند الكاتب والقارىء سواء ، حيث أنه لا يوجد ما يمنع الكاتب من كتابة ما يريده بالانجليزية السليمة إذا أجادها ، ولا ما يمنع القارىء من فهمها إذا أجادها هو الآخر ، لكن ما يحير أن كلاهما يصر على استخدام هذا الأسلوب بينما يمكن لهما التواصل مباشرة بالعربية وهما ناطقان بها..!

الخلاصة أصبحنا لا نجيد لغتنا ، ولا اللغة الأجنبية ، ويبقى أن كل من هذه الفئات ستبرر موقفها بشيء مما نوهت عنه فى المقال السابق ، أى أن كل كاتب له جمهوره!
هكذا تفتتت اللغة بل أصبحت عاملا جديدا يساهم فى تكريس الانفصال بدلا من أن تكون عامل توحيد وأداة اتصال
مساء الخير

هناك تعليق واحد: