السبت، 18 أبريل 2009

بين المكتوب والمنطوق 3

متابعة: بين المكتوب والمنطوق
إكمالا لحديثنا عن الأمية الجديدة هناك حقيقتان لابد من ذكرهما
الحقيقة الأولى أن الأمى التقليدى هو من لا يعرف القراءة والكتابة ، إذاَ فحديث العامية المكتوبة ليس موجها إليه
وهذا الأمى التقليدى ، مع أميته ، يستطيع إجمالا تفهم المعانى الفصيحة حين سماعها ولا تقف أميته حائلا دون ذلك ، يمكننا بسهولة قياس هذا عند استماع العامة من الأميين التقليديين إلى مادتين منتشرتين يتم إذاعتهما صباح مساء بالعربية الفصحى وهما نشرات الأخبار والقرآن الكريم ، أضف إلى ذلك القصائد المغناة مثل قصائد أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ، ومعروف فى التاريخ العربى قوة اللغة رغم انتشار الأمية بمفهوم عدم استطاعة القراءة والكتابة
لم تكن هناك حاجة فى أى وقت "لترجمة" هذه المواد إلى أية لهجة محلية بل إن تذوقها لدى العامة تم بشكلها ولشكلها غير الدارج

الحقيقة الثانية أن من توجه إليهم كتابات العامية أو لهجة التخاطب المنطوقة ، يستطيعون القراءة ، أى كأنك تعطى عكازا لمن يستطيع المشى! وهنا تكمن المفارقة العجيبة
الأمى الحقيقى غير معنى بأى شيء مكتوب .. لكنه لديه القدرة على إدراك كل المسموع فصيحا كان أو دارجا
الأمى الجديد لديه القدرة على إدراك المكتوب والمقروء والمسموع فما هى مشكلته فى اللغة على وجه التحديد؟
تتجسد هنا الحقيقة الثانية ، الأميون الجدد لديهم مشكلة فى استخدام أحد شقى اللغة ، القراءة والكتابة ، فهم يستطيعون القراءة لكنهم لا يجيدون الكتابة ويعانون من ضعف خطير فى القدرة على استخدام الأدوات الإملائية والنحوية معا
نستنتج من هذا أن الكتابة هى مشكلة الجيل الجديد وليس القراءة ، فلماذا توجه إليهم كتابات دارجة طالما أنهم يستطيعون قراءة اللغة السليمة؟
نأتى هنا إلى المشكلة الحقيقية وسبب ظهور هذه الكتابات ، وهى أن المشكلة تكمن أساسا فى قدرة الكاتب وليس القارىء
فهؤلاء الذين يكتبون كل أعمالهم بالعامية يعانون من ضعف فى كتابة اللغة العربية ، ولكنى أندهش لماذا تكتب وأنت أساسا ضعيف اللغة؟ إن لم تكن كذلك ، ولعلى مخطىء فى استنتاجى ، فماذا يمنعك من الكتابة باللغة السليمة ، لا تقل "الجمهور عاوز كده" فهذه هى لغة شباك التذاكر فى السينما التى اخترعت لنا هذا التعبير لتبرير سفاهاتها ، ثم إننا علمنا أن المنطوق له عذره ولا غبار فى أن تجرى مادته باللهجة الدارجة ، لكن ما الذى يبرر ذلك فى المكتوب ، ثم إن القارئ ليس لديه مشكلة فى فهم الفصحى فماذا تقصد؟

نخلص من هذا إلى ما أشرت إليه فى أكثر من موضع سابق أنه إذا استثنينا بعض الأشكال الناطقة وما يندرج تحت باب الأدب الشعبى من زجل وغيره ، وما قد يستخدم أحيانا من تعبيرات دارجة محدودة وسط سياق فصيح ، فالمسألة لا تعدو كونها تعبير عن عجز الكاتب وقصور فى استعمال اللغة إذا تمت كتابة أعمال كاملة باللهجة العامية يقصد بها قراءتها على هذا النحو
وبما أن هذا العجز والقصور ليس مبررا لاستمرار هذه الظاهرة واستمرائها ، لأن ذلك يخرب اللغة ويميع قواعدها وأساليبها فلن يبقى لدينا إلا أن نعتبر أن هذا هو الهدف .. تخريب اللغة والاستخفاف بأصولها وجعلها تنحدر إلى مسالك لا هوية لها ولا قواعد ، وبالتالى فلن يكون هناك أدب ولا شعر ، ولا أسلوب ، ولا علم ولا تحضر ، وسواء فعلنا ذلك عن قصد أو دون قصد فالنتيجة واحدة .. ضياع اللغة
الخلاصة إن الأمة التى تفقد لغتها تفقد أصولها وهويتها قبل ثقافتها وأدبها ، عندئذ سوف تسهل مهمة دعاة الهيمنة ، وسيقصر طريقهم إلى السيطرة على العقول والوجدان قبل السيطرة على الأرض والعمران
استمعت أمس إلى حديث جديد للأستاذ هيكل عن أهمية إحياء اللغة العبرية فى إسرائيل ، فى روايته أن المسئولين الإسرائيليين صرحوا لأحد كبار الإعلاميين البريطانيين بأنهم فى صدد تثبيت أركان الدولة المعتمدة أساسا على الجيش فى كل شيء يسعون إلى إحياء اللغة العبرية وتقويتها لكى تحل اللغة محل الجيش فى توحيد صفوف الإسرائيليين! .. اللغة محل الجيش .. هلا أدركنا الآن قيمة اللغة؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق