الخميس، 2 فبراير 2012

صراع الأجيال فى مصر


*

من المعلوم أن المجتمع المصرى قد تغيرت تركيبته السكانية فى العقود الأخيرة إلى مجتمع يتكون فى غالبيته من الشباب ، وبهذا يصنف ضمن المجتمعات "الشابة" على عكس ما نراه فى المجتمعات الأوربية مثلا والتى تراجع فيها معدل الزيادة السنوية فى عدد السكان تدريجيا منذ الحرب العالمية الثانية إلى حد وصوله إلى الصفر فى بعض دول أوربا بل إلى معدل سلبى أحيانا مما ينتج عنه تناقصا حتميا فى نسبة الشباب إلى كبار السن وكلاهما يمثل من 20-25 % من التعداد الكلى أى بنسبة متساوية تقريبا 1:1

حالة مغايرة تماما فى مصر التى تزايد معدل زيادة السكان فيها إلى 2.4% سنويا مما جعل نصفه تحت سن العشرين وأغلبيته تحت الخامسة والعشرين، وبهذا تكون نسبة الشباب إلى كبار السن 5 أضعاف تقريبا 1:5
النسبة العددية هى فقط عنوان شكلى للتركيبة السكانية تعكس بالضرورة فروقات أخرى مجتمعية بين الشريحتين تتعلق بطريقة التفكير وأسلوب الحياة وما يتبع ذلك من اختلاف فى الأولويات
ونظرا لسيطرة الجيل القديم على مقدرات الدولة فى مصر دون وجود آليات لتسليم الراية إلى الأجيال اللاحقة فقد ظهر مصطلح "دولة العواجيز" خاصة بعد ثورة 25 يناير 2011 والتى أعلن فيها الشباب المصرى رفضهم لاستمرار الأجيال السابقة فى الحكم والتحكم بينما قوبل هذا الرفض بيد من حديد من قبل السلطات كما ظهر فى مواجهات الثورة وما تلاها من أحداث خلال عام كامل من عدم الاستقرار آخرها حوادث القتل والبلطجة فى مباراة كرة القدم ببورسعيد
فى ذكرى موقعة الجمل الشهيرة فى ميدان التحرير العام الماضى ، وهى حوادث لا يجب أن تكون متوقعة بهذا الحجم والضراوة فى مبارة رياضية ، إذ لم يحدث فى تاريخ كرة القدم أن تسببت مباراة فى قتل 73 مواطنا وجرح ألف

وتكرار مثل هذه الحوادث كل شهر تقريبا منذ اندلاع الثورة نتيجة سوء الإدارة الأمنية والتعامل الوحشى مع المتظاهرين لابد أن يقارن بالصورة النقية من القتل والإصابات فى كل مرة تعلن قوات الأمن انسحابها من ميادين التظاهر وترك الساحات "لتأمينها بمعرفة وعلى مسئولية المتظاهرين" كما أعلن فى بيانات سابقة لبعض التظاهرات المعلن عن موعدها سلفا
لا يبدو فى الأفق ، مع الأسف ، أية بوادر للتصالح بين الكبار والشباب مع استمرار مسلسل العنف ولا يمكن فى الوقت نفسه لوم الشباب المدنى الأعزل لاستخدامه أى عنف ضد أمن السلطة ، ومن الواضح أن أية مبادرة للتصالح لن تأتى إلا من الطرف المسيطر على السلاح والقوات والتشكيلات والسلطة التنفيذية بأكملها ، ولا يمكن تصور أى تصالح باستمرار احتكار السلطة والأمر من طرف واحد مع طلب الإذعان التام على الطرف الآخر وفى نفس الوقت إهماله التام اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا واعتباره قطيع يساق كما تساق قطعان الماشية ، التى أيضا تسخر وتحلب ثم تذبح فى النهاية ..  لا يمكن أن يكون هذا عدلا ولا إنسانية ، ولا حقا ولا عقلانية

على الكبار أن يمتثلوا لنداء العقل والضمير الإنسانى بوقف العنف ومحاولات الترويع فلن يفلح أى عنف فى الإجهاز على قوى الشباب الثائر ولن يفلح المضى ضد تيار العمر والتاريخ
إن متوسط عمر الحكام الآن 70 عاما بينما متوسط عمر الثوار 20 عاما ، هذا الفرق الشاسع يقترب من عمر جيلين وليس جيلا واحدا ، وهو فرق يتولد عنه فرق جهد يولد بدوره طاقة هائلة للشباب لا قبل للأجيال القديمة بها يجب أن تكون طاقة إيجابية فى خدمة المجتمع ولا يجب أن تستهلك وتهدر فى مشاكل تديرها أجهزة أمنية
لكن الطاقة الحيوية ليست كل شيء فهناك طاقة أخرى هائلة تتولد عن استئثار السلطة الحاكمة بكل خيرات المجتمع بينما يعانى الشباب من البطالة وقلة الرعاية وإهدار الكرامة أيضا .. هذا هو الوضع الذى يفجر الثورات ويضع المجتمعات على حافة الفوضى 
باختصار لابد للكبار فى مصر ، عمرا وسلطة وتاريخا ، التنازل طواعية عن بعض أدوارهم للشباب لتقوم الأجيال الجديدة بدورها الطبيعى فى قيادة البلاد وإنمائها قبل أن تشيخ فى مكانها انتظارا لرحيل الأجيال الأقدم
والصورة فى إيجاز شديد شباب يمثل غالبية من السكان مقابل أقلية من كبار السن تملك وتتحكم فى معظم مقدرات الأمة ، شباب يملك من الطاقة الحيوية والطاقة المجتمعية أضعاف أى شريحة أخرى فى المجتمع ، وشباب يملك معه الحركة الحتمية للطبيعة والتاريخ مقابل شريحة متحكمة لن تحيا قدر ما فات ولن تقدر على حمل المعاول فى أى بناء جديد
بقى أن نشير إلى شريحة الأعمار المتوسطة ، وهى فئة أقلية أيضا ، وقد اختارت لنفسها دورا مميزا ووسطا هو السلطة التشريعية ممثلة فى مجلس الشعب كما أظهرت الانتخابات الأخيرة ، ولا غبار فى ذلك على الإطلاق ، إذ أن طاقة هؤلاء أقل بكثير من خبراتهم

إن ما يحدث فى مصر الآن هو صراع أجيال بامتياز .. ولن يحل إلا بتنازل الكبار ، طواعية ، عن سلطاتهم والاعتراف بشرعية حكم الشباب للبلاد ، بل إن هذا هو الأمل الوحيد الباقى للإسراع بنهضة مصر من عثراتها الكثار
ولننظر حولنا لنرى كيف تسلم الأمم المتحضرة راياتها فى هدوء وسلام من جيل إلى جيل ، ولنرى كيف يتقلد الشباب أرفع المناصب ويتولون أعلى القيادات بما فيها الرئاسة
ويجب هنا أن نتساءل لماذا يتم إحالة كل موظف عام إلى التقاعد عند سن الستين بكل حزم وصرامة وطبقا للقانون ، بينما يسمح لأعلى المناصب وأكبر المسؤليات أن يتولاها كهول فى السبعين والثمانين ، أيضا بكل حزم وصرامة وطبقا للقانون؟!

*