الجمعة، 9 أكتوبر 2009

حرب أكتوبر 1973 - الأبعاد العسكرية


6 أكتوبر 1973 تاريخ غير العالم ، بعده تغيرت أشياء كثيرة وأرسيت قواعد ونظم جديدة للحرب والسلم ، والاقتصاد والسياسة 
لم تكن كل التغييرات حميدة لمن صنعوا التاريخ فى ذلك اليوم ، ولكنهم مع ذلك يفخرون دائما بنصرهم فى تلك الحرب ويعتزون بما حققوه من إثبات الذات وكسر التحديات 

الأبعاد العسكرية لحرب أكتوبر 
التحدى الأول والأكبر كان التحدى العسكرى الإسرائيلى بعد هزيمة يونيو 1967 ، أرض محتلة ، وتفوق عسكرى ، ودعم غير محدود للعدو ، مقابل جيش محطم ، ومانع جغرافى هو قناة السويس ، ومانع صناعى هو سد بارليف ، ودعم محدود 

مفاجآت عسكرية
فاجأ المصريون العدو والعالم كله بعدة مفاجآت لم يحسب أحد حسابها وكانت هى مفاتيح النصر 

1. السرية التامة فى العمل العسكرى
2. التمويه والخداع 
3. عبور قناة السويس 
4. اختراق سد بارليف بدلا من اعتلائه 
5. إعداد الجنود والضباط 
6. استخدام أسلحة جديدة واستخدام جديد للأسلحة التقليدية 
7. حماية القوات
8. كفاءة القيادات والتخطيط العسكرى 

السرية التامة
لم يمكن لأى فرد خارج القوات المسلحة معرفة ما كان يجرى داخلها ، كانت هناك نكتة أو تشنيعة تردد بعد حرب يونيو تقول أن سائق الباص ينادى على الركاب أثناء سفرهم بين المحافظات " اللى نازل المطار السرى" ... كى يستعدوا للنزول !
لم تعرف القوات المقاتلة بموعد بدء الحرب إلا صباح اليوم السادس من أكتوبر ، ولم يعرف أحد أين تختبئ الطائرات المصرية ولا أين توجد بطاريات الصواريخ ، رغم الإلحاح الشعبى لمعرفة كل شيء عن الاستعداد للحرب ، 

التمويه والخداع 
نظرا للطبيعة المكشوفة لميدان المعركة وللأرض المصرية المسطحة والخالية من التضاريس الجبلية والغابات وما يمكن الاختباء فيه أو به كانت مسألة تغطية تحركات القوات فى غاية الصعوبة ، طائرات التجسس تعمل ، والأقمار الصناعية تصور ومن الضرورى إخفاء كل شيء عسكرى ينشأ أو يتحرك فينبئ بالاستعداد للحرب ، لكن ذلك لم يكن ممكنا .. 

كيف واجهت القوات هذه المعضلة؟ 
بنيت مخابئ الطائرات تحت الأرض ، وكذلك بطاريات الصواريخ
بنيت مخابئ هيكلية وقواعد وهمية عديدة حتى أصبح متعذرا تحديد الحقيقى من الوهمى عن طريق التصوير
استخدمت الحيلة فى خداع العدو لمنعه من معرفة النوايا الحقيقية للقوات ، أجريت عدة مناورات كبيرة لتحريك القوات كأنها ستشن حربا خلال أيام ثم انتهت المناورات كل مرة بعودة القوات إلى ثكناتها ، فى كل مرة أعلنت إسرائيل التعبئة العسكرية ورفعت الاستعداد إلى أقصى درجة ، واشتملت التعبئة على تكاليف باهظة وإرباك بالغ ، فلما جاءت المرة الرابعة اعتقد الإسرائيليون أنها كسابقاتها وأنها مجرد حركة لن تسفر عن شيء فامتنعوا عن إعلان التعبئة ،  لكنها كانت القاضية .. 

مفاجآت يوم الحرب 
يوم بدء الحرب كانت هناك عدة مفاجآت ، كانت القاعدة المعروفة لدى كل الجيوش أن القوات المهاجمة تبدأ القتال أول النهار ، وقد مضى أكثر من نصف اليوم ولم يحدث شيء كانت النتيجة استرخاء تام على الجبهة الإسرائيلية 
المفاجأة الثانية يوم الحرب أنه كان فى شهر رمضان والعدو يعرف أن أفراده صائمون ، وأيام السنة كثيرة فلماذا يغامر جيش بإقحام أفراد صائمين فى مهام قتالية فى الصحراء وفى عز الشمس؟ ثم قد بلغت الساعة الثانية ظهرا فقد مضى من النهار معظمه ولابد أن الجنود إما نائمون وإما جوعى وعطشى ينتظرون الطعام والشراب 
المفاجأة الثالثة أن المصريون قد علموا بأن ذلك اليوم يوافق أحد الأعياد الدينية عند اليهود ولابد أنهم ولم يكن عندهم خبر بالاستعداد للحرب أن يكونوا فى عطلة كالعادة تتقلص معها الاتصالات وتخفف فيها الأوامر والواجبات والالتزامات 

الخداع الاستراتيجى 
جرى الترويج  داخليا وخارجيا لعدم جدية مصر فى الحرب ، بالإيحاء المباشر أحيانا وبتسريب أخبار وهمية أحيانا أخرى ، وبإطلاق مبادرات لحلول سياسية ، ثم بإبعاد المستشارين والخبراء العسكريين السوفييت من مصر
ساعد الإسرائيليون مصر فى خطة التمويه هذه كثيرا بإطلاق التصريحات المغرورة على لسان قواد الجيش الإسرائيلى تقول إن خط بارليف لا يمكن اقتحامه بأعتى الجيوش بما فى ذلك الجيش الأمريكى ، وأنه لا يقبل التحطيم حتى بالقنابل الذرية ، وأن مصر قد تلقت ضربة قاصمة عام 1967 ولن تقوم لها قائمة قبل عشرات السنين 
وحتى قيام الحرب يوم 6 أكتوبر لم تكن هناك أية معلومات مؤكدة لدى أجهزة المخابرات الإسرائيلية والأمريكية عن حرب وشيكة

عبور قناة السويس 
استخدمت لعبور القناة قوتان ، الأولى عبور الجنود على قوارب مطاطية قابلة للطى تعد للاستخدام الفورى من على ضفة القناة ، ولهذا يمكن للجنود حملها كمعدة خفيفة بدلا من القوارب ذات الهياكل التى لا يمكن إخفاؤها 
القوة الثانية قوة الدبابات وهى من نوعين ، برية وبرمائية ، ولعبور الدبابات البرية جرى تجهيز جسور فورية التركيب مكونة من عدة أجزاء تفتح فى لحظات لتستوى على سطح الماء ويتم ربط الأجزاء بحيث تشكل جسرا بعرض القناة يستطيع تحمل عبور الدبابات  

اختراق سد بارليف
بنى سد بارليف بارتفاع نحو عشرين مترا على طول قناة السويس لتكريس المانع الجغرافى المائى بإضافة حاجز يستحيل اعتلاؤه بالدبابات أو المركبات العسكرية من أى نوع ، وبالتالى منع أية قوات من التقدم البرى على الأرض 
ماذا فعل المصريون مع هذا الحاجز المنيع؟
بنى حاجز مشابه فى مكان آخر داخل الأرض المصرية وبدأت القوات التدريب عليه ، تم تجريب كل شيء ، المدافع والصواريخ والقنابل والمتفجرات ، فشلت كل المحاولات إلى أن تقدم أحد المهندسين الشبان بفكرة بسيطة لكنها عبقرية .. لقد صنع السد من أكوام من التراب والرمل تتخللها نقط حصينة بنيت من الحجارة والأسمنت المسلح تم تسليحها بالمدافع .. الفكرة الجديدة تقول أن التراب والرمل يمكن إزالتها بالماء .. جرى توجيه خراطيم المياه إلى الساتر الترابى على سبيل التجربة فانهار السد بالفعل ، وعليه تم تصنيع مئات مما أسمى فيما بعد بمدافع الماء وهى التى استخدمت فى فتح ثغرات فى السد الترابى نفذت منها الدبابات المصرية إلى شرق القناة فى ساعات قليلة 
فى نفس الوقت كان الجنود يتدربون على اعتلاء السد بسلالم من الحبال سهلة الحمل والاستعمال ، فلما حان وقت القتال كانت الدبابات تتقدم أسفل السد بينما الجنود من فوقه فلم يترك فيه مكان إلا وتمت السيطرة عليه 

إعداد الجنود والضباط
مهمة إعداد الأفراد هى أهم مرحلة فى الاستعداد للحرب ، وهى مهمة ذات عدة أوجه ، الإعداد التنظيمى ، الإعداد المعنوى ، الإعداد الجسدى  ، الإعداد المعلوماتى ، الإعداد القتالى
وفى الاستعداد للقتال ظهرت أنواع جديدة من التدريب ، التدريب على العبور ، التدريب على تسلق السد الترابى ، التدريب على استخدام مدافع الماء للمراحل القتالية الأولى ، ثم فى المراحل التالية ظهر فى الحرب مفاجأتان هما نوعان جديدان من الأسلحة "البشرية" إن جاز التعبير ، لم تكن الأسلحة البشرية قوات انتحارية أو أفراد ترتدى أحزمة ناسفة بل على العكس تعمل فى أمان وبشكل مؤثر وفعال 

استخدام أسلحة جديدة واستخدام جديد للأسلحة التقليدية 

السلاح الأول: الفرد فى مواجهة الحصن العسكرى 
تدرب الجنود على الوصول إلى الحصون العسكرية المقامة على سد بارليف فى أمان بتفادى نيران المدافع حتى إذا وصل أحدهم إلى بوابة الحصن ، أو ما أسمى بالدشمة ، ألقى داخلها بقنبلة تدمر ما فيها بمن فيها وأسكت مدافعها تماما 

السلاح الثانى: الفرد فى مواجهة الدبابة 
كان من المعروف حتى حرب أكتوبر أن الدبابة تعمل كآلة تدمير بجسمها المدرع القوى وبمدفعها الثقيل بعيد المدى ، جاءت القوات المصرية بفكرة عبقرية أخرى أحالت الدبابة إلى كتلة عاجزة ، لكنها كانت تحتاج إلى شجاعة فائقة من الجنود ، يتقدم الجندى نحو الدبابة فيقترب منها إلى حتى أمتار قليلة فيصبح فى مأمن من مدفعها ، ثم له أن يواجهها بأحد سلاحين ، مدفع خفيف يحمل على الكتف لكنه مضاد للمدرعات ويمكنه اختراق جسم الدبابة وإحراقها أو تعطيلها ، أو أن يعتلى ظهر الدبابة فيفتح غطاءها العلوى ليلقى بقنبلة داخلها 
هذه الأسلحة "البشرية" لم يحسب حسابها أحد ولم يتوقع ظهورها أحد ، وكانت عاملا حاسما فى السيطرة على ميدان المعركة ، وقد ساعدت كثيرا فى تغليب ميزان القوى لصالح القوات المصرية بأقل التكاليف فى الأفراد والمعدات ، بعدها لم تصبح الدبابات مثل ما كانت عليه قبل أكتوبر ، غيرت الجيوش دباباتها إلى دبابات مزودة بمدافع رشاشة ضد الأفراد خشية مهاجمة الجنود 

حماية القوات 
تعددت مهام حماية القوات المهاجمة وبدأت تلك المهام منذ اللحظة الأولى للقتال

مفاجأة الضربة الجوية: جاءت الضربة الجوية حسب الخطة المعدة كتمهيد للتقتال البرى ، لكنها جاءت مفاجأة فالعمليات التى تبدأ بالقصف الجوى ، تكون عادة مع أول ضوء فى النهار حتى ترى الطائرات أهدافها بوضوح وإلى أن ينتصف النهار تكون قد مهدت الميدان لتقدم القوات البرية فى أمان فيما بقى من اليوم ، فى هذه الحرب مخالفة تامة للقاعدة ، طلع النهار وانتصف ولم يتحرك شيء ، فإن بدأ قصف جوى بعد ذلك لن يكمل مهمته قبل حلول الظلام وعليه فلن تستفيد منه القوات البرية التى تحتاج أيضا لضوء لنهار .. النتيجة اطمأن العدو تماما 
انطلقت من مخابئها 220 طائرة فى وقت واحد إلى أهداف محددة فى سيناء فقصفت مواقع القيادات والاتصالات والإمداد والذخيرة مما قطع أوصال القوات المتواجدة وأصبح الميدان جاهزا للقتال على الأرض فى وقت قياسى ، عادت معظم الطائرات سالمة بينما كان من المتوقع إصابة نصفها ، ثم عادت إلى ميدان القتال لتواجه الطيران الإسرائيلى فى مراحل لاحقة ، بعد حرب أكتوبر أعادت جيوش العالم التفكير فى توقيت الضربات الجوية ولم يعد الهجوم مع أول ضوء هو القاعدة  
حائط الصواريخ: شكل حائط الدفاع الجوى حاجزا ناريا أمام الطيران الإسرائيلى لم تستطع اختراقه وبذلك تمت حماية القوات المهاجمة أثناء القتال على الأرض  

سلاح المدفعية: استخدمت المدافع طويلة المدى بكفاءة تامة لحماية القوات أثناء عبورها للقناة ثم عبرت فرق منها إلى شرق القناة لتشارك فى القتال البرى ، والفرق كبير بين قوات تعمل وحدها وقوات تعمل تحت غطاء جوى وساتر مدفعى  

كفاءة القيادات والتخطيط العسكرى
لاشك أن كفاءة القيادات والخطط القتالية قد ساهمت فى جعل هذه الملحمة البطولية والنصر الذى شهد به العالم حقيقة واقعة ، لايمكن للأفراد وحدهم دفع هذا المجهود الحربى الهائل دون تخطيط سليم وفكر جاد وإدارة ناجحة لكل المعطيات بدءا من التدريب إلى التسليح والتنسيق بين القوات واستخدام عناصر المفاجأة والسرعة والتأمين الأقصى للقوة المحاربة 

لهذه الأسباب توصف حرب أكتوبر بأنها غيرت المفاهيم العسكرية على مستوى العالم ، ولهذه الأسباب تدرس عملياتها ومعاركها فى المعاهد العسكرية العالمية ، والفضل فى النصر يرجع فى كثير من جوانبه إلى الفرد المقاتل وإلى أفكار متميزة قدمها المصريون وأذهلت العالم 
ولهذه الأسباب أيضا تحرص إسرائيل على السلام مع مصر أكثر من حرص مصر على السلام معها 
مساء الخير .. وكل عام وأنتم بخير .. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق