الأربعاء، 21 أكتوبر 2009

الفاتحة .. إلى روح أمى ..

إنا لله وإنا إليه راجعون .. البقاء لله وحده
بكل ما أوتيت النفس من إيمان أتقبل قضاء الله وأمره فى روح كريمة .. روح أمى الغالية ..
أنظر إلى مشوار حياتها وأتعجب .. كيف كانت تحيا هذه السيدة لأجل الآخرين وتعمل أكثر مما تعمل لنفسها .. كم مدت يد العون إلى الناس ، الأقربون والأبعدون ، وكم كانت تتذكرهم فى المناسبات وغير المناسبات .. كم ساعدت وكم ضحت ، وكم ابتسمت فى الوجوه وكم مسحت من دموع ، وكم ربتت على الأكتاف وكم تربت من خيرها أكتاف
كم قرأت من قرآن وكم صلت من صلوات وأخرجت من صدقات
كم فى حماها تربى صغار وكبار ، وكم فى ظلها احتمى أبرار وكم بحكمتها أخجلت أشرار
أسدل الستار أمس على حياة الفاضلة المناضلة إحسان عبد الرحمن .. اسم يعرفه كثيرون .. بين أسمائهم أجيال وفى أولادهم كتبت قصائد وأشعار بخطها الجميل وذوقها الراقى الأصيل
عاصرت إحسان عبد الرحمن أجيالا عديدة وشهدت متغيرات كثيرة فى المجتمع المصرى ، كانت فى مقدمة مسيرة تعليم المرأة فى مصر ونشرت الصحف صورتها تحت عنوان " الأولى على مدارس معلمات القطر المصرى .." وترقت فى سلك التربية والتعليم تربى وتساهم فى الحركة التعليمية الكبرى التى بدأت فى الخمسينات ثم تقلدت عدة مناصب وشاركت فى الحركة الاجتماعية والسياسية فى مدينة الإسكندرية فى الستينات
فى نطاق أسرتها كانت أختا لثلاثة أولاد هى أكبرهم سنا ، فقدت والدها مبكرا وتعاونت مع والدتها على تنشئة إخوتها حتى أكملوا تعليمهم ثم تزوجت من شخصية سكندرية معروفة هو الأستاذ محمد عفيفى ومضت معه فى رحلة عمر طويلة يظلها المحبة والتعاون وإلإخلاص
لها أربعة أولاد وثمانية أحفاد وهناك غير هؤلاء كثيرون اعتبرتهم أبناءها وأحفادها وعاملتهم بالمثل
كنت طفلا فى الثالثة من عمرى عندما اصطحبتنى أمى إلى المدرسة لأول مرة ، كنت أحضر كضيف غير مقيد ، بنهاية العام كنت قد تعلمت القراءة والكتابة ، فى العام التالى أرادت أن تلحقنى رسميا بإحدى المدارس لكن صغر السن كان عائقا صعبا ، فألحقتنى بمدرسة أزهرية كانت تقبل صغار السن أنعم الله على فيها بحفظ القرآن الكريم ، ثم جاء الصف السادس لنفاجأ بعدم قبولى للتقدم لاختبار الشهادة الابتدائية لصغر السن ، فقررت إلحاقى بمدرسة إعدادية خاصة تتغاضى عن شرط السن وتعقد اختبارا خاصا للقبول ، كان على اجتياز الاختبار وكان عليها تدبير المصروفات .. مر العام الأول بسلام إلى أن أعلنت النتيجة .. ذهبت إلى المدرسة متشوقا لرؤية اسمى ولأفرح والدى بالنتيجة ، لكنى لم أجد له أثرا ، لا فى كشوف الناجحين ولا فى كشوف الراسبين! وقفت حائرا أمام باب المدرسة المغلق لا أدرى ماذا أقول لأهلى .. اكتشفت وجود إعلان صغير بعيد يقول "طلبة ناجحون بتفوق ويعيدون السنة لصغر سنهم ..وتحتها اسمى !" قرأتها وأنا لا أكاد أصدق .. علمت أمى بالخبر ولم تسكت ، وصل الأمر للوزير .. انتهت الأجازة الصيفية وأدخلت رغم أنفى للصف الأول مرة أخرى لكن طبعا مصاب باكتئاب حاد .. ذات يوم بعد شهر من بدء الدراسة سمعت دقات على باب الفصل لا أنساها .. ثم ظهر وكيل المدرسة ليقرأ على أستاذ الفصل قرارا من وزير التربية والتعليم بنقل الطالب الذى هو أنا من الصف الأول إلى الصف الثانى الإعدادى .. كانت فرحة كبرى ونقلة كبيرة تعلمت منها دروسا كثيرة .. أهمها لا تيأس ..
جاء امتحان الثانوية العامة .. خذلنى المجموع فلم يمكننى من دخول الكلية التى أرغبها .. صرحت لأسرتى برغبتى فى إعادة السنة وإننى على ثقة من الحصول على مجموع أكبر ، لم يتحمس أبى كثيرا لهذا الرأى ونصحنى بأن أدخل الجامعة من أى باب وأنه بإمكانى إثبات تفوقى فى أى مجال ، ثم حذرنى من مغبة ضياع الفرصة إذا لم تأت الإعادة بما تشتهى السفن ، وقال إن أصررت على ذلك فلتحجز لك مكانا فى الجامعة وتنتظم فى الدراسة وفى نفس الوقت تجهز نفسك لإعادة الامتحان فإن خيرا تركت ذلك وإن لم تستطع فلن تفوتك الفرصة الحالية
سألتنى أمى عن رأيى فيما قال أبى .. قلت لها بصراحة أخشى أن تشغلنى الجامعة عن الإعادة وأنتهى إلى نفس الموقف .. ثم إننى أعلم موضع الضعف وسأعمل على علاجه لكن هذا يحتاج لتفرغ .. قالت: " أنا معك .." ثم وجهت كلامها إلى أبى قائلة: "دعه يفعل ما يشعر أنه يستطيع فعله .. هو يشعر أن هذه النتيجة لا تعبر عن مستواه الحقيقى وسوف يعمل من أجل إثبات مستواه ، فقط يحتاج فرصة ثانية .." قبل أبى كلامها وتم لى ما أردت
انتهيت من الجامعة لأدخل فى دوامة جديدة .. هذه المرة أريد السفر للخارج .. أبى ينصحنى بالسفر للعمل فى الخليج .. لكن فى رأسى أفكارا أخرى .. الخارج عندى معناه أوربا .. أمريكا وليس الخليج .. للدراسة العليا واكتساب خبرات متقدمة .. لكن هذا يتكلف أموالا طائلة .. عملت بنصيحة والدى بعض الوقت و جمعت بعض المال لكنه غير كاف ، لابد من دعم ما .. مرة أخرى تطمئننى أمى .. تجاهد لتوفر المال وترسل لى الدولارات رغم الغلاء المستمر ..
عدت بعد دراستى للعمل فى الخليج .. وددت أن أرد دينى .. لكنها لم تقبل .. " أنت تحتاج للمال أكثر منا .. مازال أمامك الكثير .. "
جمعت مالا أكثر أرسلته إلى أمى .. ماذا فعلت به؟ بنت لى سكنا خاصا ..
هكذا كان دعمها وهكذا مكنتنى من التفرغ لتخطيط مستقبلى وهكذا تمكنت من الاستقرار فى حياتى بحيث أكون أقرب ما يمكن إلى ما أحب وأرضى ..
رحمك الله يا أمى .. كنت خير معين لى .. ولولاك لما حققت شيئا يذكر
ليس هذا فقط ما أذكره لأمى .. أذكر ابتسامتها وبشاشتها ، وأذكر خطها المنمق فى رسائلها وأشعارها ، وأذكر صوتها الجميل تغنى لى وأنا طفل صغير أغنية أم كلثوم "مصر التى فى خاطرى وفى فمى .. أحبها من كل روحى ودمى .."
أذكرها فى شم النسيم من كل عام تجمع من تستطيع من الأقرباء لكى نقضى اليوم معا على شاطئ البحر .. وكلما زاد عددهم ازادت فرحتها بهم وبجلساتهم وأحاديثهم .. تعد لهم ما استطاعت من الأطباق الشهية وتطمئن إلى مناسبتها لكل الأذواق
أذكر كيف كانت تدبر ميزانية للمصيف كل عام حتى ترفه عن الأسرة عناء طول العام
ثم كيف استطاعت أن تشترى أرضا وتبنى عليها طابقا طابقا حتى أمنت سكن أولادها جميعا
أذكر كيف كان يزورها أناس لا حصر لهم ، كلهم ممتنون لها بجميل أو معروف
كيف كانت تعد الطعام الفاخر فى منزلها للمرضى فى المستشفيات المتواضعة
كيف كانت تتحدث عن أبى بفخر فى كل مناسبة ، وكيف حزنت يوم وفاته ..
أذكرها تجمع أولادى فى الأعياد لتمنحهم "العيدية" .. وتشترى لهم شهادات استثمار كل منهم باسمه ..
وتستعد فى شهر رمضان بما مكنها الله فيه من خير .. توزع الطعام والهدايا على البسطاء ، ثم إذا جاء عيد الأضحى أعدت لكل صاحب نصيب نصيبه ووزعته فى هدوء
وبحلول العام الدراسى لا تنسى أن تجمع ما استطاعت من الكتب ولوازم المدرسة والملابس توزعها على من يحتاج
وما تعلمته من أمى لا حصر له .. من أول القراءة والكتابة حتى كيفية التعامل مع الناس
كانت تدعونى إلى المطبخ لتشرح لى كيفية إعداد الطعام وتقول .. يوما ما ستكون بمفردك وسيكون عليك إعداد طعامك بنفسك
ثم عندما جاء الوقت الذى أصبحت فيه وحدى لم تتركنى ، فى كل رسالة وصفة جديدة وأكلة جديدة حتى استطعت أن أكون من رسائلها كتابا فى أصول الطهى!
لم تكن أمى طاهية ماهرة فقط تعد أصنافا رائعة من الوجبات ، كانت تقريبا تملك مصنعا فى منزلها للصناعات الغذائية ، مربات من كل الفواكه ، زبادى صناعة منزلية ، بسكوتات وحلويات ، عصائر طازجة ، مخللات أشكال وألوان ، وكانت إذا أرادت تعلم شيء جديد أحضرت له متخصصا يقوم بتحضيره وتعليمها فى نفس الوقت ، كما كانت لها موائد خاصة اشتهرت بها ، فهذه مائدة بحرية ، أى عليها أصناف شتى من السمك والمأكولات البحرية ، وتلك مائدة لحوم ، ومائدة خضروات ومائدة محشيات إلى آخره .. حتى الخبز كانت تعده أحيانا فى المنزل ، بأنواعه ، البلدى والشامى والتوست ..
أكثر من ذلك كان فى بيتنا مصنعا صغيرا للصابون ، تشترى لوازم التحضير وتمزج المزيج ثم تنتظر ليجف قليلا فتبدأ بتقطيعه فى قوالب صغيرة فى صبر كبير
كانت أمى رائدة فى تحديث المنازل وأسلوب المعيشة .. وكانت قريباتها ومعارفها من السيدات ينظرن إلى كل خطوة تخطوها فى تحديث منزلها فيحذون حذوها .. فهى من أوائل من أدخل الثلاجات والغسالات الكهربائية ومواقد الغاز والراديو والتليفزيون إلى المنازل ، وكانت تحرص على تغيير الأثاث بين الحين والآخر ، بل وتغيير السكن نفسه كلما أمكن ..
ذات يوم جاء إلى منزلنا رجل وامرأة .. قالوا نحن أولاد فلان .. كان فلان هذا يمتلك عمارة سكنية بجوار فندق شيراتون وكانت أمى تستأجر فيها شقة للمصيف .. وعندما أكرمنا الله ببناء منزل خاص بالقرب من شاطئ البحر لم نعد فى حاجة إليها .. كانت قيمة الشقة قد ارتفعت كثيرا وكان المتبع أن يدفع المالك جزءا كبيرا من قيمة الشقة حتى يستطيع استردادها حيث أن القانون لا يعطيه هذا الحق .. أخبر الضيفان أمى بأنهم فى حاجة لتلك الشقة وتوقعا أن تطلب أمى مبلغا كبيرا مقابل التنازل عنها .. ماذا فعلت أمى؟ استأذنت منهم لتعود بعد دقائق وفى يدها مفتاح الشقة قائلة .. "أصحابها أولى بيها" .. سألتها السيدة: "طلباتك؟" أجابت أمى: " لا شيء" ما دمتم أنتم فى حاجة إليها ولا أحتاج أنا إليها فلأكتب لكم الآن التنازل منى عن العقد ولن أطالبكم بأى شيء .. وشكرا لله الذى منحنى بيتا جديدا وغدا قد يقف أبنائى نفس الموقف فلعلهم يجدون من يستجيب ." عقدت الدهشة لسانيهما لكنهما أدركا أنهما أمام نموذج مختلف من البشر ، حياها بأطيب تحية ثم انصرفا غير مصدقين!
الفاتحة لك يا أمى .. شملك الله تعالى برحمته وتقبل طيب أعمالك وطيب روحك وصفاء نفسك وإيمانك الجميل ، وأدخلك أفضل جناته إنه سميع عليم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . بسم الله الرحمن الرحيم
"الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين . إياك نعبد وإياك نستعين . إهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" . آمين
.
.

هناك تعليقان (2):

  1. كانت أما لنا جميعا .. رحمك الله وتقبل منك وأدخلك فسيح جناته ..آمين

    ردحذف
  2. تحية إلى روح أمي الطاهرة في يوم ميلادها 8 مارس .. العالم كله يحتفل بيوم ميلادك في يوم المرأة العالمي .. ربما ليست صدفة .. فأنت تستحقين التكريم من العالم كله
    اللهم اغفر لي ولوالديّ .. رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ..

    ردحذف