الأربعاء، 10 يونيو 2009

متناقضات أوباما Obama's Paradoxes


على راى المثل الشعبى المصرى : أسمع كلامك يعجبنى ، أشوف أمورك أستعجب"
لا أدرى هل بإمكان الأمريكان ترجمة هذا المثل؟
عبر كثيرون عن إعجابهم وقبولهم بالخطاب الأمريكى للعالم الإسلامى من القاهرة خاصة أن الرئيس الأمريكى حرص على مخاطبتنا بلغتنا وبديننا وبقرآننا وبتاريخنا ، وبآلامنا فى الماضى والحاضر ، وبآمالنا فى الغد والمستقبل

تعالوا نحلل سويا فى هدوء خطاب هذا الرجل منطق بمنطق
الخطاب فى منتهى الدبلوماسية ، وهو حرفيا كذلك أيضا ، وقد أمسك فيه بميزان حساس ليرسى عدة توازنات فى الرأى الأمريكى فى القضايا المختلفة بحيث تشترك التوجهات السياسية الأمريكية فى مفتاح واحد معلن هو "التوازن" .. من وجهة نظره طبعا

فهو إن ذكر معاناة الشعب الفلسطينى الحالية يذكر معاناة الشعب اليهودى السابقة
وإن طالب إسرائيل بوقف الاستيطان يطالب الفلسطينيين بوقف المقاومة
وإن اعترف بخطأ الإدارة السابقة فى حرب العراق يبرر الحرب باعتقاده أن أحوال الشعب العراقى أفضل منها فى عهد صدام حسين
وإن برر احتلال أفغانستان يتمنى أن تعود قواته اليوم قبل الغد
وإن أنشأ حربا أهلية فى باكستان يذكر أنه يرسل بالمساعدات الإنسانية للمتضررين من الحرب
وإن اعترف بالتوتر الشديد بين أميركا والعالم الإسلامى يلقى باللائمة على الحروب الصليبية وحركة الاستعمار القديم والعولمة ، ويعد بالمساعدات الأمريكية لتعويض هذه الشعوب عما أصابها من تخلف بسبب سياسات الغرب الأنانية بمعاونتها فى تحقيق التقدم
وهكذا ..
ونعود لنقول أن الخطاب خطاب ديبلوماسى فى المقام الأول ، وهو حديث مكتوب ومرتب بعناية فائقة
لكن هناك عدة أسئلة منطقية
1. هل ظهر فجأة فى أمريكا من هو على دراية بالتاريخ ليعدد لنا مزايانا التاريخية فى مسيرة الحضارة الإنسانية؟ هل بقية النخبة المثقفة لا يعلمون شيئا عن هذا؟
الجواب لا بالطبع ، ليس فقط من باب المعلومات العامة أو التاريخية بل داخل الجامعات ومراكز البحوث كل شي مكتوب ومسجل ومعروف ومدروس ، الفرق فقط هو الاعتراف به علنا وعلى المستوى السياسى
2. هل هو جديد أن ينادى الرئيس الأمريكى الجديد بفكرة الدولتين؟ ألم يطلقها بوش نفسه خلال ولايته الأولى؟ ألم ينص عليها قرار الأمم المتحدة عام 1947 المعروف بقرار التقسيم؟
3. هل إيقاف المستوطنات فكر جديد؟ ألم يذكر الرئيس أن المستوطنات الحالية تخالف جميع الاتفاقات والتعهدات السابقة؟
4. هل من الجديد إعلان القناعة الأمريكية بأن التطرف الإسلامى العنيف هو حركة أقلية من الأفراد تمثل نقطة فى محيط هائل من المسلمين المسالمين الأبرياء؟ ألم يعلن هذا بوش بنفسه؟ ومع ذلك جند إدارته لحرب الشعب الأفغانى والعراقى والفلسطينى واللبنانى؟
5. من الذى خلق الحركات المسلحة فى أفغانستان؟ أهم المسلمون أم الأمريكان؟ ألم تنشئ أميركا تلك الحركات من أجل مقاومة الاحتلال السوفييتى؟ ثم عندما انقلب السحر على الساحر راحت أميركا تناصب كل المسلمين العداء وتجر معها أوربا؟ ثم قامت باحتلال أفغانستان بدل السوفييت؟

لهذا يعلق كثير من المسلمين والعرب بأن المواقف رهن الأفعال ولا يمكن تصديق كلام يتم فعل عكسه على الأرض
دعونا نقول للرئيس الجديد أن خطابك يا سيادة الرئيس خطاب ديبلوماسى يمكن قبوله على لسان أحد وزرائك أو سفرائك كما يحدث فى كل المناسبات الديبلوماسية .. عادى .. ولا يعقل بالطبع أن تأتى إلى منطقة بينك وبينها عداء لتنفخ فى النار .. هذا هو الكلام الذى يجب أن يقال ، الاحترام المتبادل وحقوق الإنسان وكل شعارات النوايا الطيبة

لكن الرؤساء يا سيادة الرئيس ليسوا وزراء وليسوا سفراء
الرؤساء لديهم سلطات ، ويتخذون قرارات
الرئيس الأمريكى ترومان كتب فى اليهود ما كتب ولم يخف نقده لهم ، ولكنه قرر الاعتراف بدولة إسرائيل بعد إعلانها بنصف ساعة ، ربما لأنه فكر بفائدتها فى إبعاد اليهود عن أمريكا؟
ونفس الرئيس قرر ضرب اليابان بالقنابل الذرية ، ولم تكفه القنبلة الأولى فأمر بالثانية
الرئيس أيزنهاور أجبر بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على الانسحاب من سيناء وقناة السويس
الرئيس كينيدى قرر حصار كوبا وحفز قوته النووية لاستخدامها مالم يتم سحب الصواريخ السوفييتية ، وتم له ما أراد
الرئيس نيكسون قرر مصالحة الصين بعد طول عداء ونفذ قراره
الرئيس كارتر أراد وقف الحرب بين مصر وإسرائيل وأتم معاهدة سلام انسحبت بموجبها إسرائيل من سيناء وأزالت مستوطناتها
الرئيس بوش الأب قرر تحرير الكويت من قوات صدام حسين وحشد لها القوات الأمريكية وقوات من عشرات الدول تحت البند السابع ، وتم له تحرير الكويت
الرئيس بوش الإبن قرر غزو أفغانستان وغزو العراق واحتلالهما ونفذ قراره رغم معارضة المجتمع الدولى وبدون استخدام البند السابع ، وقرر أن يعيد الشعب العراقى إلى العصر الحجرى وقد فعل

ونحن ننتظر منك قرارات حاسمة وليس خطابات وكفى
لقد قلت أنه لن يمكن لأميركا أن تعمل وحدها وأننا يجب أن نعمل معا
أوكى .. ما الذى ما تتوقعه منا؟ ليس أمامنا مع تحجر العقلية السياسية الإسرائيلية إلا أحد حلين ، إما أن نقاتل أو أن نستسلم
هل يجب على العرب والمسلمين محاربة إسرائيل واستعادة الأرض المحتلة بالقوة كما فعل المصريون فى 1973؟ هل ستسمح دولتك بذلك؟ هل يمكن لأميركا أن تنتظر انتصار العرب دون تدخل بالسلاح والعتاد والذخيرة والجسور الجوية لإسرائيل؟ هل ستقول أن تلك الأرض حق العرب ودعوهم يحصلون على حقهم المغتصب بالقوة كما أخذت منهم بالقوة؟ هل ستتركنا فى حالنا؟

الغريب أن الولايات المتحدة تسكت تماما لو أن إسرائيل هى التى تشن الحرب وتحتل الأرض وتدمر المدن وتقتل وتشرد العباد وتسكن فى مساكنهم! هذا إن تفضلت بالسكوت ولم تسارع بالتأييد والعون والتبرير
الكل يعلم أن مخافة التدخل الأمريكى هى التى تمنع العرب من استرداد حقهم بالقوة وليست مخافة إسرائيل كما يحلو للإسرائيليين أن يصوروا الأمر للأمريكان ، وهذا هو سر عدم تحرير تلك الأراضى للآن ، ليس فقط بإمداد إسرائيل بكل شيء من الإبرة للصاروخ قبل الحرب ولكن أثناء الحرب أيضا
فى حرب 1967 كانت سفينة التجسس الأمريكية ليبرتى تقف قبال الشاطئ المصرى لتفك الشفرة العسكرية المصرية وتجمع المعلومات عن القوات المصرية لتهديها لإسرائيل
وسبق ذلك تصوير مواقع المطارت الحربية المصرية بطائرات التجسس الأمريكية التى لم تكن إسرائيل تملك مثلها وباسخدام جواسيسها المباشرين وإهداء صورها لإسرائيل
وفى حرب 1973 كانت طائرات الاستطلاع الأمريكية هى التى صورت ثغرة الدفرسوار وأهدت صور ميدان القتال إلى القوات الإسرائيلية أثناء الحرب
وأثناء القتال أيضا رفعت حالة الاستعداد فى الأسطول السادس الأمريكى الذى اقترب جدا من السواحل المصرية .. لماذا؟
وأثناء العدوان الإسرائيلى القريب على غزة المحاصرة المعزولة أسرعت القيادة الأمريكية بإرسال الذخائر من قواعدها حول العالم للإسرائيليين بينما هم يقصفون المدنيين المساكين الذين تركوا بيوتهم المهدمة للاحتماء بمبانى الأمم المتحدة الى قصفت أيضا

إذا لم يكن سيناريو الحرب ضد إسرائيل مقبولا فما هو السيناريو المقبول؟ أن يوقع العرب وثيقة استسلام دون قيد أو شرط تضيع معها الأرض ويذهب اللاجئون للجحيم بعد معاناة عشرات السنين؟

إن المسألة الفلسطينية ليست إنسانية فقط
لقد حارب المصريون من أجل استرداد سيناء ولم تكن بها مأساة إنسانية ، المأساة فى نظرنا كانت فى ضرب مصر بالطائرات والصواريخ الأمريكية واحتلال جزء من أرضها ، والمأساة كانت كرامة وسيادة أصحاب الأرض قبل أن يكون لدينا لاجئين أو أناس فى المخيمات لعشرات السنين

إن الذين ضحوا بحياتهم فى الحروب مع إسرائيل لا يعيشون بيننا الآن ولم ينعموا بالعيش فوق الأرض التى قاموا بالنضال من أجلها ، الحياة الأفضل أحيانا هى الموت نفسه ، لكن بلادك أيها الرئيس لا تسمح لنا بمجرد التفكير فى هذا الشرف ، لا تسمح لنا حتى بالموت فى سبيل الحق ، لكنها تسمح بموت أبنائنا المهين على يد الإسرائيليين بالقنابل الفوسفورية وحرق الأطفال بقنابل النابالم لا مشكلة!

يعنى كيف يمكن قبول أوضاع مغلوطة كهذه؟ إن استخدام الفيتو ضد كل قرار أممى يحاول رفع الظلم عن أبناء فلسطين يوجه لنا رسائل غريبة ، لا تحارب إسرائيل ولا تقتل إسرائيليا ولا تعادى الدولة الإسرائيلية ولا تنتقم منها ، لكن إذا حاربتك إسرائيل أو قتلت أبناءك فهذا دفاع عن النفس؟ ضد ماذا؟ ضد أناس مسلمون أمرهم لله لا يريدون إلا حقهم الطبيعى فى حياة كريمة على أرضهم كبقية بنى البشر؟ ضد شعوب احتضنت اليهود لقرون طويلة بعد تشريدهم وطردهم من أوربا ، ويشهد التاريخ واليهود أنفسهم على أن سكان الأندلس الذين عاشوا مع العرب فى سلام ظلوا يطاردون لقرن كامل فى أسبانيا بعد رحيل العرب حتى وإن أخفوا يهوديتهم ، ثم اضطروا إلى ترك أوربا كلها إلى بلاد العرب حيث التسامح والسلام ، تشهد على ذلك بلاد المغرب ومصر والشام وعاشوا فيها دون أى تمييز أو تفرقة؟

أعجبتنا محاضرتك القيمة عن تعايش الأديان ، لكن إذا كان هناك شيء بهذا الاسم فنحن الذين اخترعناه ، ونحن الذين مارسناه
وقضيتنا يا سيادة الرئيس ليست مع اليهود ولا مع الديانة اليهودية ولا مع المسيحيين وديانتهم ، ديننا يعلمنا أن "لكم دينكم ولى دين"
وفى التعايش السلمى نحن لنا باع وتاريخ ، ولابد أنك تعلم كما يعلم اليهود أنفسهم كيف كانوا يعيشون ويعاملون فى مصر حتى قيام إسرائيل ، كانوا أصحاب مال وجاه وانخرطوا فى الحياة الاجتماعية المصرية لم يشعر أحد بكونهم يهودا ، بل كان منهم التجار الكبار والأطباء المميزين والفنانين المشهورين ، وما زالت أسماؤهم تتردد فى مصر إلى يومنا هذا بكل فخر ودون أية ضغائن ، وقد حققوا كل هذا داخل مجتمع مسلم ، وكذلك كان حال المسيحيين المصريين ولليوم ، ولم يكن ذلك إلا بسبب أنهم يعيشون فى مجتمع متسامح يقبل الآخر ويحرص على حقوق الإنسان دون تمييز ، هذا كله نسفته إسرائيل العدوانية التوسعية التى جعلت شعارها الدولة الإسرائيلية من النيل إلى الفرات .. هم الذين بدءوا العدوان وهم الذين أوصلوا الشرق الأوسط إلى الكوارث والنكبات ، وأيدهم الغرب فى كل خطوة ، جميع دول الغرب بلا استثناء ولا أقول أميركا فقط

ومن الطبيعى أن نعجب بالنظام الأمريكى الذى تستشهد لإنصافه بأنه منحك الفرصة لتكون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ، لكنك لا تنسى أن ذلك لم يأت من فراغ وإنما بنضال من سبقوك على طريق تحقيق الحريات وحقوق الإنسان ومعاناة أجيال من التفرقة العنصرية البغيضة فى الولايات الأمريكية إلى عهد قريب

ولا أدرى لماذا تذكر لنا يا سيادة الرئيس محرقة اليهود؟ هذه قصة خارجة تماما عن سياق الصراع العربى الإسرائيلى وعلاقة الإسلام بالغرب ولا أدرى لماذا تحشر فى موضوع كهذا؟
يعنى مالنا ومال هذه القصة؟ وما دخلنا إن كانت حقيقية أم وهمية؟ نحن لم نكن طرفا فيها وبالتالى ليس علينا تجاهها أية التزامات بالمرة ، من ارتكب هذا الجرم عليه وحده تحمل تبعاته وقد دفع ثمنه الشعب الألمانى وانتهى الأمر

يلخص الكثير من الناس سياسة أمريكا فى هذه المنطقة وفى كل منطقة فى عبارة واحدة هى سياسة الكيل بمكيالين أو سياسة المعايير المزدوجة ، وهذه السياسة بعينها هى التى تفقد أميركا أصدقاءها وتفقدها مصداقيتها واحترامها وتزيد من شعور الناس بالظلم والأسى ، وقديما قيل المساواة فى الظلم عدل ، فإن ساويتم بين الناس حتى بالحصار فقد يقبلونه ما دام قد خلا من التمييز
 
وبعد فإن خطابك الملئ بالقيم الأخلاقية الرفيعة ، وأولها المساواة فى الحقوق والكرامة يبعث فينا الأمل بقيام عهد جديد فى السياسة الأمريكية ، اليوم ننتقد لأننا تحكمنا ظلال الماضى ، وأملنا أن نكون غدا من المباركين والمناصرين لكم ولإدارتكم ولشعبكم ، وأن تكون بلادكم عونا للشعوب وحصنا للمبادئ ومساهمة فى إعلاء شأن الإنسان كما كانت حضارات العالم القديم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق